ما ذنب ربيع العمر إذا ما التقى بخريف الحياة، وما ذنب صفو الحياة إذا ما تعكّر بدنس البشر؟!!!.

لقد كنّا محض أطفال منذ زمن ليس ببعيد، نزهو في البيت الكبير لجدّتي ـ رحمها الله ـ نعانق الأحلام والرؤى المستقبليّة في شغف، نلهو ونلعب دون كلل أو ملل، وكنّا نفرّ من بعضنا البعض إلى أحضان جدّي فينصف هذا ويطرد ذاك، ثم يعود لحضنه من جديد في تحنان يغمر الجميع بلا استثناء.

لقد كنا ننام جميعاً في بيتهما تحت دثار الحبّ وغطاء الأمان، وقبل القيلولة كنّا نتشاجر على كوب لبن بقرة طبيعيّ، وعلى رغيف الخبز الساخن من تحت يدي جدّتي وقليل من الزبدة الطريّة كان يكفي لنسكت عن كوب اللبن فهو البديل اللذيذ.

كنا في بيت جدّتي ـ رحمها الله ـ نعيش ملوكاً وأمراء، أحلامنا ورديّة ممزوجة بعطر الورد المغروس في الفناء، وكنّا نتوسّد بهذا الفناء الكبير المحبّة والسلام والأخوّة، فقد كنّا ونحن أبناء أخوال وخالات وأعمام وعمات أخوة لا غير، هكذا كانت تقول جدّتي، والدليل أننا نستيقظ صباحاّ جميعاً وفي يدنا "حنّاء"، كانت جدتي قد خضّبت بها راحاتنا الصغيرة ونحن نيام، فكان ذلك بالنسبة لنا قمّة السعادة والهناء وقمّة الطهر والعفّة والكبرياء.

أحببنا جدّتي كثيراً وكذلك هي أحبّتنا، لقد كان عالمنا نقياً، بهيّاً، عفيفاً، طاهراً، أبيضاً بياض الثلج، بياض القطن، بياض قلب جدّتي، ولكن عندما ماتت ـ رحمها الله ـ اختفى هذا الجمال، وتشتت فجأة ذاك البياض، وتحوّلت تلك الحياة التي كانت جميلة إلى سواد ما بعده سواد، وانهار سقف البيت الكبير، واضمحلّت تلك السعادة، وصار طعم اللبن مرّاً، ونكهة القهوة حزناً، وافترق أولئك الإخوة وتشتتوا في دروب الحياة، فأيّ جحيم نحن فيه الآن، وأيّة حياة هذه التي نحياها بلا طعم، بلا أهل، بلا ودّ؟!.


تم عمل هذا الموقع بواسطة