غالباً ما يكون عدّاد الوقت صادقاً، فهو لا يكذب إلا في حالة واحدة؛ عندما يحسب من أعمارنا أعواماً لم نعش منها سوى لحظات قليلة.
أناجي من هناك طائر النورس الحزين الذي كان ومازال مؤنسي منذ مقتبل العمر، فأنا لا أملك في الدنيا سوى أحزاني وصوته التعيس كلّ صباح وبعضاً من ذكريات مدرستي المهجورة وقصاصات الأوراق، وروايات الاطفال الصغار ورسائل الغزل والنسيج الغرامي الذي كنّا نتبادله من وقت لآخر، من صفّ لصفّ، ومن شارع لشارع، ولكن لمّا صحونا من خمرة الألم وجدنا العمر قد مرّ والوطن منّا قد ضاع، فعشنا أعياداً مهترئة بذكريات أليمة وتعايشنا مع مناسبات عديدة كان من المفترض أن تكون سعيدة بيد أنّها كانت بنكهة حزينة اشتدّت فيها قسوة السنوات العجاف على قلوب أنهكها الألم، فكان العيد بلا حلوى وقوس قزح بلا ألوان والسماء بلا زرقة والبحر بلا أسماك.
حاولنا كثيراً أن نقتات بقايا الأمل من نور القمر، وأن نسترق لحظات السعد من نجوم السماء، وأن نختطف لحظات الفرح من زهرات الربيع، ولكنّ التراجيديا قدرنا فلا مفرّ من عدّاد الوقت الذي يطحن السنين طحناً فيذر العمر قاعاً صفصفاً، وشئنا أم أبينا مرّ العمر... كنّا لا نريد، كما لم نرد يوماً.